فصل: (فرع: فيما يتقوى بنابه وحكم ابن آوى)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: تعليق نذر الاعتكاف على قدوم شخص]

وإن نذر اعتكاف اليوم الذي يقدم فيه فلان صح نذره قولا واحدا؛ لأن الاعتكاف يصح في بعض اليوم، بخلاف الصوم. فإن قدم ليلا لم يلزمه شيء؛ لأنه لم يوجد الشرط. وإن قدم نهارا لزمه اعتكاف بقية اليوم، وهل يلزمه قضاء ما فاته من اليوم؟ وجهان:
أحدهما: يلزمه، وهو قول المزني، كما قلنا في الصوم.
والثاني - وهو المذهب -: أنه لا يلزمه؛ لأنه لم يدخل في النذر، ويفارق الصوم: فإنه لا يصح الصوم في بعض اليوم، فلذلك لزمه القضاء.
وإن قدم وهو محبوس أو مريض جاز له ترك الاعتكاف، وهل يلزمه القضاء؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يقضي؛ لأنه تعذر عليه الاعتكاف حال الوجوب.
والثاني - وهو المنصوص -: أنه يلزمه القضاء؛ لأن العبادة الواجبة بالشرع إذا تعذرت بالمرض وجب قضاؤها، فكذلك العبادة الواجبة بالنذر.
فإذا قلنا بهذا: فإنه يقضي قدر ما بقي من اليوم بعد القدوم، على المذهب، وعلى قول المزني يلزمه قضاء جميع اليوم.

.[مسألة:نذر الحج ماشيا]

وإن نذر المشي إلى بيت الله الحرام انعقد نذره، ولزمه المشي إليه بحج أو عمرة؛ لأن المشي ليس بقربة لله إلا لذلك، فإذا أطلقه حمل على المعهود في الشرع؛ لأن المشي إلى العبادة أفضل، ولهذا روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يركب في عيد ولا جنازة».
فإن قيل: فالمشي في الشرع لا يجب، فكيف لزم بالنذر، قلنا: قد يلزم بالنذر من القرب ما ليس بواجب في الشرع ابتداء، مثل: الاعتكاف والإحرام من دويرة أهله.
ومن أين يلزمه المشي؟ فيه وجهان:
أحدهما قال أبو إسحاق: يلزمه أن يحرم ويمشي من دويرة أهله؛ لأن إتمام
الحج والعمرة يتعلق بذلك، وإنما أجيز تأخير الإحرام إلى الميقات رخصة، فإذا نذر رجع إلى الأصل.
والثاني: قال عامة أصحابنا: لا يجب عليه الإحرام والمشي إلا من الميقات - وبه قال أحمد - لأن المطلق محمول على المعهود في الشرع، والإحرام في الشرع إنما يجب من الميقات.
فإن أراد الدخول في الحج فإنه يمشي فيه إلى أن يحل له النساء، وهو بالتحلل الثاني، ولا يلزمه المشي لرمي الجمار الثلاث في أيام التشريق.
وإن أراد الدخول بعمرة فإنه يمشي فيها إلى أن يحل له النساء أيضا، وهو إلى أن يفرغ من الحلاق إذا قلنا: إنه نسك، وإن قلنا: إنه ليس بنسك، فإلى الفراغ من السعي.
وإن أحرم بالحج، ففاته الوقوف بعرفة فإنه يلزمه القضاء ماشيا؛ لأنه بدل عما لزمه، وهل يلزمه المشي في تمام الفائت؟ فيه قولان:
أحدهما: يلزمه؛ لأن ذلك قد لزمه بالإحرام.
والثاني: لا يلزمه؛ لأن هذا لا يجزئه عن النذر.
وإن لزمه المشي فركب نظرت: فإن كان قادرا على المشي فقد أساء بذلك، وحجه صحيح، وعليه هدي؛ لما روى ابن عباس: «أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام، فأمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تركب وتهدي هديا» ولأنه ترفه بترك المشي، فأشبه إذا تطيب أو لبس.
وإن كان عاجزا عن المشي جاز له أن يركب؛ لأن الواجب بالشرع يسقط بالعجز عنه فلأن يسقط الواجب بالنذر عند العجز أولى، فإذا ركب فهل يجب عليه دم؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب؛ لأنه لو نذر أن يصلي قائما فعجز كان له أن يصلي قاعدا، ولا شيء عليه، فكذلك هاهنا.
والثاني: يجب عليه الهدي؛ لحديث عقبة بن عامر؛ لأنه لا يجوز أن يأمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالركوب إلا مع العجز. ولأنه إذا تركه مع القدرة لزمه الدم، وكذلك إذا تركه عاجزا، كسائر المناسك، بخلاف الصلاة فإنه لا يدخلها الجبران بالهدي، والحج يدخله الجبران. هذا نقل الشيخ أبي حامد والبغداديين من أصحابنا.
وقال صاحب "الإبانة": إذا نذر الحج ماشيا فهل يلزمه الحج ماشيا أو يجوز له الركوب؟ فيه قولان، بناء على أن الأفضل أن يحج راكبا أو ماشيا، فإن قلنا: إن الأفضل أن يحج ماشيا لزمه المشي، فإن ركب مع القدرة على المشي فهل يصح حجه؟ فيه قولان. فإن قلنا: يصح فعليه الدم، وإن قلنا: لا يصح فعليه القضاء، ومن أين يمشي؟ ينظر في لفظه:
فإن قال: علي لله أن أحج ماشيا أو أحرم ماشيا فمن وقت الإحرام بالحج.
وإن قال: علي لله أن أمشي إلى مكة حاجا فمن حين يخرج من بيته.

.[فرع: نذر أن يركب إلى المسجد الحرام فمشى أو بغير نسك]

وإن نذر أن يركب إلى بيت الله الحرام فمشى فالمشهور من المذهب: أن عليه الدم: لأنه ترفه بترك مؤنة الركوب. وحكى صاحب "الفروع" وجها آخر: أنه لا دم عليه؛ لأن المشي أشق من الركوب.
وإن نذر المشي إلى بيت الله الحرام لا حاجا ولا معتمرا فوجهان:
أحدهما: لا ينعقد نذره؛ لأن النذر إنما ينعقد إذا أطلق؛ لأنه محمول على عرف الشرع بالقصد إليه بالنسك، فإذا شرطه بغير نسك خرج عن معهود الشرع، فلم يصح نذره.
والثاني: يصح نذره، ويلزمه المشي بحج أو عمرة؛ لأن النسك قد لزم بقوله: علي لله أن أمشي إلى بيت الله الحرام، وقوله: (لا حاجا ولا معتمرا): لغو في الكلام، فوجب إسقاطه.
قال الشيخ أبو حامد: يشبه أن يكون هذان الوجهان مأخوذين من القولين فيمن نذر المشي إلى مسجد المدينة أو المسجد الأقصى؛ لأن المشي هناك لا يتضمن النسك كذا هاهنا إذا صرح بترك النسك.
قال ابن الصباغ: وهذا البناء لا يستقيم؛ لأنه إذا قلنا: يصح النذر هاهنا يلزمه المشي بالنسك، بخلاف المشي إلى مسجد المدينة أو المسجد الأقصى.

.[فرع: نذر المشي لبيت الله ولم يقل الحرام]

إذا نذر المشي إلى بيت الله ولم يقل: الحرام ولا نواه فنقل المزني: (أنه ينعقد نذره). وقال في "الأم" [2/230] ما يدل على أنه لا يلزمه.
قال ابن الصباغ: ففي المسألة قولان، ولكنها مشهورة بالوجهين:
أحدهما: لا ينعقد نذره؛ لان المساجد كلها بيوت الله.
والثاني: ينعقد نذره، ويلزمه المشي إلى بيت الله الحرام بحج أو عمرة؛ لأن إطلاق بيت الله لا ينصرف إلا إليه. قال المحاملي: والأول أصح.

.[فرع: النذر إلى موضع من الحرم أو إلى عرفة]

وإن نذر المشي إلى بقعة من الحرم لزمه المشي إليه بحج أو عمرة.
قال الطبري في "العدة": وسواء قال: علي لله أن أمشي، أو أذهب، أو أسير أو أنتقل، أو آتي، أو أمضي، فكل ذلك سواء.
وذكر المحاملي في " التجريد ": إذا قال: علي لله أن أذهب إلى مكة، أو إلى البيت، أو إلى الحرم فإنه يلزمه الذهاب بنسك، ولكن لا يلزمه المشي، بل إن شاء ذهب راكبا أو ماشيا؛ لأن اسم الذهاب يقع على الجميع.
وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه إلا إذا نذر المشي إلى بيت الله، أو إلى مكة، أو إلى الكعبة استحسانا، فإذا نذر المشي إلى بقعة من الحرم غير ذلك فلا يلزمه).
دليلنا: أنه موضع لا يجوز دخوله بغير إحرام، فلزمه النذر بالمشي إليه بالنسك كالبيت.
وإن نذر المشي إلى عرفة فالمشهور من المذهب: أنه لا يلزمه بذلك شيء.
وحكى صاحب "الفروع": أن أبا علي بن أبي هريرة قال: يلزمه المشي إليها بنسك؛ لأنها منسك. وليس بشيء؛ لأنه موضع يجوز قصده بغير إحرام، فلم يلزمه المشي إليه بالنذر، كسائر بقاع الحل. وقوله: (إنها منسك): يبطل بالميقات.

.[فرع: نذر المشي لمسجد غير الثلاثة أو لمسجد المدينة والأقصى]

وإن نذر المشي إلى مسجد غير المساجد الثلاثة لم يجب عليه شيء لأنه لا تشد إليه الرحال.
وإن نذر المشي إلى مسجد المدينة أو المسجد الأقصى فهل ينعقد نذره؟ فيه قولان وقد مضى توجيههما.
فإذا قلنا: لا يصح فلا كلام.
وإذا قلنا: يصح النذر فقال ابن الصباغ: فإذا بلغ إليها صلى ركعتين واجبتين؛ لأن القصد بالسعي إليهما القربة بالصلاة فيهما، فتضمن ذلك نذره.
وقال الطبري في "العدة": يصلي فيهما ركعتين، أو يعتكف ساعة حتى تكون قربة.

.[مسألة:نذر الحج السنة]

إذا قال: علي لله أن أحج في هذه السنة، فإن وجدت فيه الشرائط المعتبرة لوجوب حجة الإسلام في هذه السنة - وهي: البلوغ والعقل والحرية والإسلام وتخلية الطريق وإمكان السير ووجود الزاد والراحلة - فإن لم يحج استقر الفرض عليه، ولم يسقط عنه الفرض إلا بفعله بعد ذلك.
وإن وجدت فيه هذه الشرائط ولكن أحصر حصرا عاما حتى مضت هذه السنة فالمنصوص: (أنه لا يجب عليه القضاء) كما نقول في حجة الإسلام إذا أحرم بها، ولم يكن تمكن منها قبل ذلك، فأحصر حصرا عاما فتحلل فإنه لا قضاء عليه.
وحكى الطبري في "العدة": أن أبا العباس ابن سريج قال: يجب على الناذر القضاء؛ لأنه أمر إذا لم يجب بالشرع فإنه يجب بالنذر، كالمريض لا يجب عليه الحج بالشرع، ولو نذر الحج وجب عليه.
فإن أحصر هذا الناذر في هذه السنة حصرا خاصا، بأن مرض أو حبس أو أخطأ الطريق قال المحاملي في " التجريد " والطبري في "العدة": فإن الفرض يستقر عليه في حجة الإسلام، وفي حجة النذر أيضا، لا لأن الطريق مخلى: وإنما تعذر عليه الحج لمعنى يخصه، فاستقر عليه الفرض، ومتى عدمت الشرائط في هذا الناذر في هذه السنة فقد قلنا: لا يجب عليه، وإن وجدت الشرائط بعد هذه السنة فيه لم يجب عليه؛ لأنه قد نذره في هذه السنة، بخلاف حجة الإسلام. وبالله التوفيق

.[باب الأطعمة]

الأصل في وجوب إباحة الأطعمة قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4].
إذا ثبت هذا: فالحيوان على ضربين: بري، وبحري.
فأما البري: فلا يحل النجس منه، مثل: الكلب والخنزير، وكذلك: ما توالد منهما، أو من أحدهما؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3].
وقَوْله تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] والكلب من الخبائث.
والدليل على ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الكلب خبيث، خبيث ثمنه».
فإن ارتضع جدي من كلبة أو خنزيرة حتى نبت لحمه ففي إباحة لحمه وجهان، حكاهما الشاشي.
ويحل أكل الأنعام - وهي الإبل، والبقر، والغنم - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: 1].
وقَوْله تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157].
والأنعام من الطيبات وأجمع المسلمون على إباحة أكلها.
ويجوز أكل لحم الخيل، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (يكره كراهة يتعلق بها الإثم)، ولا يقول: إنها محرمة.
دليلنا: ما روى جابر قال: «ذبحنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر الخيل والبغال والحمير، فنهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن البغال والحمير، ولم ينهنا عن الخيل».
ويحرم أكل لحوم الحمر الأهلية، وبه قال جماعة من العلماء.
وروي عن ابن عباس: أنه قال: (تحل).
دليلنا: حديث جابر.
ويحرم أكل لحوم البغال.
وقال الحسن البصري: يحل.
دليلنا: حديث جابر.
ويحرم أكل السنور الأهلي؛ لما روى جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أكل الهر» وفي السنور البري وجهان:
أحدهما: لا يحل: للخبر.
والثاني: يحل؛ لأن كل حيوان كان منه إنسي ووحشي اختص التحريم بالأهلي، كالحمار.

.[مسألة: أكل الضبع والثعلب وغيرهما]

ويحل أكل الظبي والوعل وبقر الوحش وحمر الوحش لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] وهذه كلها من الطيبات.
ويحل أكل الضبع والثعلب.
وقال أبو حنيفة: (لا يحل أكلهما).
وقال مالك: (يكره أكلهما).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] وهما من الطيبات، وروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الضبع صيد يؤكل».

.[مسألة: في أكل الأرنب والقنفذ وغيرهما]

ويحل أكل الأرنب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] والأرنب من الطيبات. ولما روى جابر: «أن غلاما من قومه صاد أرنبا أو اثنين، فذبحهما بمروة، فتعلقهما حتى لقي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أكلهما، فأمره بأكلهما».
ويحل أكل اليربوع، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يحل).
دليلنا: أنه من الطيبات، وأوجب عمر فيه الجزاء فدل على أنه صيد يؤكل.
ويحل أكل القنفذ. وقال أبو حنيفة وأحمد: (لا يحل).
دليلنا: ما روي: أن ابن عمر سئل عن أكل القنفذ، فتلا قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145]. وهذا فتوى منه بإباحته.
ويحل أكل ابن عرس والوبر. و(ابن عرس): دويبة أصغر من الوبر.
وقال أبو حنيفة: (لا يحل واحد منهما).
دليلنا: أنهما مستطابان عند العرب، فحل أكلهما.
ويحل أكل الضب، وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: (لا يحل).
دليلنا: ما روي «عن خالد بن الوليد قال: دخلت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيت ميمونة، فقربت لنا ضبا محنوذا، فأهوى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليه بيده، فقال بعض النسوان اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما يريد أن يأكل منه، فقيل له: هو ضب، فرفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يده، فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: «لا، ولكن لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه» قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينظر، فلم ينهني».

.[فرع: فيما يتقوى بنابه وحكم ابن آوى]

ولا يحل أكل ما يتقوى بنابه ويعدو على الناس وعلى البهائم، كالأسد والفهد والنمر والدب والذئب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وهذه كلها من الخبائث. ولما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير» وفي ابن آوى وجهان:
أحدهما: يحل؛ لأنه ضعيف الناب، فأشبه الضبع.
والثاني: لا يحل؛ لأنه من جنس الكلاب، والعرب لا تستطيبه، ولأنه كريه الرائحة.
ولا تحل الحيات والعقارب والفأر والخنافس والوزغ وما أشبهها من حشرات الأرض؛ لأنها من الخبائث.

.[مسألة: أكل النعامة وغيرها من الطيور]

ويحل أكل النعامة؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قضوا فيها ببدنة إذا قتلها المحرم، فدل على أنها صيد.
ويحل الديك والدجاج والحمام والقطا والبط والكركي والعصفور؛ لأن كل هذه مستطابة.
ويحل أكل الجراد؛ لما «روى عبد الله بن أبي أوفى قال: (غزوت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبع غزوات ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأكل الجراد ونأكلها معه». وروي: أن الجراد ذكرت عند عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: (ليت لنا منها قفعة أو قفعتين).
وقال أبو العباس بن القاص، وأبو علي في "الإفصاح": لا يحل أكل الهدهد،
والخطاف؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتلهما)، وذلك يدل على تحريمهما.
ولا يحل أكل ما له مخلب يصطاد به، كالعقاب والصقر والشاهين والباشق؛ لحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ويحرم النسر والرخمة؛ لأنهما مستخبثان.
وتحرم الحدأة، والغراب الأبقع، والغراب الأسود الكبير؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس يقتلن في الحل والحرم: الحية، والفأرة، والغراب الأبقع، والحدأة، والكلب العقور» وما أمر بقتله لا يحل أكله.
وأما الغراب الذي يسمى الغداف: وهو صغير الجسم، لونه كلون الرماد، وغراب الزرع ففيهما وجهان:
أحدهما: لا يحلان؛ لعموم الخبر.
والثاني: يحلان؛ لأنهما مستطابان يلتقطان الحب، فهما كالحمام.
ويحرم الذباب، والنحل، والزنبور، وما أشبهها؛ لأنها مستخبثة.

.[مسألة: أكل ما تولد من حيوان يؤكل وغيره]

ولا يحل ما تولد بين حيوان يؤكل وحيوان لا يؤكل، كالسمع المتولد بين الضبع والذئب، سواء كان الذكر مما يحل أو الأنثى تغليبا للتحريم.
وإن نزا فرس على أتان وحشية، أو نزا حمار وحشي على رمكة قال الشافعي: (كان المتولد بينهما حلالا؛ لأنهما مما يحل أكلهما).
ولو اشتبه ولد حيوان: هل هو متولد من ذكر يحل أم لا يحل؟ قال ابن الصباغ: فالاختيار: أن لا يؤكل، فإن أراد أكله نظر إلى خلقته، فإن كان الذي يحل أكله أولى بخلقته حل. وإن كان الذي لا يحل أكله أولى بخلقته لم يحل.

.[مسألة: الذي لم يرد فيه تحليل ولا تحريم]

وما لم يرد فيه تحليل ولا تحريم ينظر فيه: فإن كان مما تستطيبه العرب فهو حلال. وإن كان مما تستخبثه العرب فهو حرام. وإن استطابه قوم واستخبثه آخرون رجع إلى ما عليه الأكثر.
قال الطبري: وإنما يرجع فيه إلى العرب الذين كانوا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من
أهل الريف والسعة دون الأجلاف وأهل الضرورة. وإن اتفق في بلاد العجم ما لا يعرفه العرب رجع فيه إلى شبيهه مما يحل ومما لا يحل، فيحكم فيه ما يحكم بشبهه. قال: وإن لم يشبهه شيء ففيه وجهان:
أحدهما قال أبو إسحاق، وأبو علي الطبري: يكون حلالا؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: (بعث الله نبيه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وأنزل عليه كتابه، وأحل حلاله وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو).
والثاني: من أصحابنا من قال: لا يحل؛ لأن أصل الحيوان التحريم، إلا ما ورد الشرع بتحليله. هذا نقل الشيخ أبي حامد.
وقال المسعودي [في "الإبانة"ما لم يرد نص بتحريمه فهو حلال؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية [الأنعام: 145].

.[مسألة: أكل الجلالة]

وأما الجلالة - وهي: البهيمة التي أكثر علفها العذرة، من ناقة وبقرة وشاة ودجاجة - فنقل الشيخ أبو حامد: أنه يكره أكل لحمها ولبنها وبيضها ولا يحرم.
وقال القفال: إن لم يتغير لحمها بذلك لم يحرم، وإن تغير لحمها بذلك حتى ظهرت رائحة العذرة فيه لم يحل أكل لحمها ولبنها وبيضها، ولو غسل وطبخ لم يطهر بذلك. واحتج بما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أكل الجلالة، وعن شرب ألبانها حتى تحبس» وبه قال أحمد.
ووجه قول الشيخ أبي حامد: أن ما تأكله البهيمة من الطاهرات ينجس إذا حصل في كرشها فلا يكون غذاؤها إلا بالنجاسة، ولا يؤثر ذلك في إباحة لحمها ولبنها وبيضها، ولأن النجاسة التي تأكلها تنزل في مجاري الطعام ولا تخالط اللحم، وإنما يتغير اللحم بها، وذلك يقتضي الكراهية لا التحريم، كما لو كان معه لحم طري فتركه حتى أنتن فإنه لا يحرم بذلك، هذا هو المشهور.
وحكى الشاشي وجها آخر: أن اللحم إذا أنتن لم يحل أكله، وليس بشيء.
إذا ثبت هذا: فإن علفت الجلالة علفا طاهرا حتى زالت رائحة بدنها زالت الكراهة عند الشيخ أبي حامد، والتحريم عند القفال. وليس للوقت الذي تعلف فيه العلف الطاهر حد، وإنما الاعتبار بما يعلم في العادة أن رائحة العذرة قد زالت عن لحمها. قال ابن الصباغ: وقد حده بعض أهل العلم: بأن يعلف البعير والبقرة أربعين يوما علفا طاهرا، والشاة سبعة أيام، والدجاجة ثلاثة أيام، وقيل: سبعة أيام. وليس ذلك بتقدير، وإنما الاعتبار بما ذكرناه.

.[مسألة: حيوان البحر وما يحل منه والضفدع وغيره]

وأما حيوان البحر: فيحل منه السمك؛ لما روي عن ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أحلت لنا ميتتان: السمك والجراد».
ولا يحل أكل الضفدع لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتله) ولو حل أكله لم ينه عن قتله؛ لأنه لا يتوصل إلى أكله إلا بقتله. وقيل: إنه سم.
قال الشيخ أبو حامد: والسرطان مثله لا يحل أكله.
قال القاضي أبو الطيب: وكذلك النسناس لا يحل؛ لأنه على خلقة الآدمي.
وفيما سوى ذلك ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يحل - وهو قول أبي حنيفة - وتعلق هذا القائل بقول الشافعي: (وما رأيت من الميت شيئا يحل إلا الحوت والجراد). ولما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أحلت لنا ميتتان: السمك والجراد» فخص السمك بذلك.
والثاني: يحل ما أشبه ما كان حلالا في حيوان البر، فأما ما يشبه ما كان حراما في البر، ككلب الماء وخنزيره: فإنه لا يحل، كما نقول فيما أشكل من حيوان البر: إنه يرد إلى ما أشبهه.
والثالث - وهو المنصوص -: (أنه يحل الجميع)؛ لأن الشافعي سئل عن كلب الماء وخنزيره فقال: (يحل أكله).
قال القاضي أبو الطيب: وأما قوله: (لا يحل من الميت إلا الحوت والجراد): فجميع حيوان البحر يسمى حوتا وسمكا، والدليل على تحليل الجميع: قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96]. ولم يفرق.